الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وروي هذا القول عن ابن عباس وابن مسعود وابن المسيب، والظاهر أن ذلك منهم اقتصار على بعض مهم من أفراد ذلك العام، وسبب النزول لا يأبى العموم كما لا يخفى، وفي رواية عن مجاهد أنها قول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وفيه ما فيه، والمراد بالسيآت عند الأكثرين الصغائر لأن الكبائر لا يكفرها على ما قالوا: إلا التوبة، واستدلوا لذلك بما رواه مسلم من رواية العلاء « الصلوات الخمس كفارة لما بينها ما اجتنبت الكبائر » واستشكل بأن الصغائر مكفرة باجتناب الكبائر بنص: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سيئاتكم} [النساء: 31] فما الذي تكفوه الصلوات الخمس؟ وأجاب البلقيني بأن ذلك غير وارد لأن المراد بالآية أن تجتنبوا في جميع العمر ومعناه الموافاة على هذه الحالة من وقت الإيمان أو التكليف إلى الموت، والذي في الحديث: «إن الصلوات تكفر ما بينها» أي في يومها إذا اجتنبت الكبائر في ذلك اليوم فلا تعارض، وتعقبه السمهودي بقوله: ولك أن تقول: لا يتحقق اجتناب الكبائر في جميع العمر إلا مع الإتيان بالصلوات الخمس فيه كل يوم فالتكفير حاصل بما تضمنه الحديث فما فائدة الاجتناب المذكور في الآية ثم قال: ولك أن تجيب بأن ذلك من باب فعل شيئين كل منهما مكفر، وقد قال بعض العلماء: إنه إذا اجتمعت مكفرات فحكمها أنها إذا ترتبت فالمكفر السابق وإن وقعت معًا فالمكفر واحد منها يشاؤه الله تعالى، وأما البقية فثوابها باق له وذلك الثواب على كل منها يكون بحيث يعدل تكفير الصغائر لو وجدت، وكذا إذا فعل واحدًا من الأمور المكفرة ولم يكن قد ارتكب ذنبًا.وفي شرح مسلم للنووي نحو ذلك غير أنه ذكر أنه لو صادف فعل المكفر كبيرة أو كبائر ولم يصادف صغيرة رجونا أن يخفف من الكبائر، ويرد على قوله: إن المراد: {إِن تَجْتَنِبُواْ} في جميع العمر منع ظاهر، والظاهر أن المران من ذلك أن ثواب اجتناب الكبائر في كل وقت يكفر الصغائر الواقعة فيه، وفي تفسير القاضي ما يؤيده، وكذا ما ذكره الإمام حجة الإسلام في الكلام على التوبة من أن حكم الكبيرة أن الصلوات الخمس لا تكفرها وأن اجتناب الكبائر يكفر الصغائر بموجب قوله سبحانه: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَ} [النساء: 31] إلخ، ولكن اجتناب الكبيرة إنما يكفر الصغيرة إذا اجتنبها مع القدرة والإرادة كمن يتمكن من امرأة ومن مواقعتها فيكف نفسه عن الوقوع ويقتصر على النظر واللمس فإن مجاهدته نفسه في الكف عن الواقع أشد تأثيرًا في تنوير قلبه من إقدامه على النظر في اظلامه فهذا معنى تكفيره فإن كان عنينا ولم يكن امتناعه إلا بالضرورة للعجز أو كان قادرًا ولكن امتنع لخوف من آخر فهذا لا يصلح للتكفير أصلا فكل من لا يشتهي الخمر بطبعه ولو أبيح له ما شربه فاجتنابه لا يكفر عنه الصغائر التي هي من مقدماته كسماع الملاهي والأوتار وهذا ظاهر يدل عليه أن الحسنات يذهبن السيئات، ولا شك أن اجتناب الكبائر إذا قارن القصد حسنة وإنما قيدنا بذلك وإن كان الخروج عن عهدة النهي لا يتوقف عليه لأنه لا يثاب على الاجتناب بدون ذلك، فالأولى في الجواب عن الأشكال أن يقال: «ما اجتنبت الكبائر» في الخبر ليس قيدًا لأصل التكفير بل لشمول التكفير سائر الذنوب التي بين الصلوات الخمس فهو بمثابة استثناء الكبائر من الذنوب، وكأنه قيل: الصلوات الخمس كفارة لجيمع الذنوب التي بينها وتكفيرها للجميع في المدة التي اجتنبت فيها الكبائر أو مقيد باجتناب الكبائر وإلا فليست الصلوات كفارة لجميع الذنوب بل للصغائر فقط، وهذا وإن كان خلاف الظاهر من عود القيد لأصل التكفير لكن قرينة الآية دعت للعدول عنه إلى ذلك جمعًا بين الأدبة، ولابد في هذا من اعتبار ما قالوا في اجتماع الأمور المكفرة الصغائر، وذكر الحافظ ابن حجر بعد نقله لكلام البلقيني ما لفظه: وعلى تقدير ورود السؤال فالتخلص عنه سهل وذلك لأنه لا يتم اجتناب الكبائر إلا بفعل الصلوات الخمس فمن لم يفعلها لم يعد مجتنبًا للكبائر لأن تركها من الكبائر فيتوقف التكفير على فعلها انتهى ولا يخلو عن بحث، وممن صرح بأن ما اجتنبت إلخ بمعنى الاستثناء نقلًا عن بعضهم المحب الطبري، فقد قال في أحكامه: اختلف العلماء في أمر تكفير الصغائر بالعبادات هل هو مشروط باجتناب الكبائر؟ على قولين: أحدهما نعم وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: «ما اجتنبت الكبائر» فإن ظاهره الشرطية كما يقتضيه «إذا اجتنبت» الآتي في بعض الروايات، فإذا اجتنبت الكبائر كانت مكفرة لها وإلا فلا، وإليه ذهب الجمهور على ما ذكره ابن عطية، وقال بعضهم: لا يشترط، والشرط في الحديث بمعنى الاستثناء والتقدير مكفرات لما بينها إلا الكبائر وهو الأظهر.هذا وقد ذكر الزركشي أنهم اختلفوا في أن التفكير هل يشترط فيه التوبة أم لا؟ فذهب إلى الاشتراط طائفة وإلى عدمه أخرى، وفي البحر أن الاشتراط نص حذاق الأصوليين، ولعل الخلاف مبني على الخلاف في اشتراط الاجتناب وعدمه فمن جعل اجتناب الكبائر شرطًا في تكفير الصغائر لم يشترط التوبة وجعل هذه خصوصية لمجتنب الكبائر ولم يشترطه إلا من اشترطها، ويدل عليه خبر أبي اليسر فإن الروايات متضافرة على أنه جاء نادمًا والندم توبة، وإن إخباره صلى الله عليه وسلم له بأن صلاة العصر كفرت عنه ما فعله إنما وقع بعد ندمه لكن ظاهر إطلاق الحديث يقتضي أن التكفير كان بنفس الصلاة فإن التوبة بمجردها تجبّ ما قبلها فلو اشترطناها مع العبادات لم تكن العبادات مكفرة، وقد ثبت أنها مكفرات فيسقط اعتبار التوبة معها انتهى ملخصًا مع زيادة، ولا يخفى أن هذا يحتاج إلى التزام القول بأن ندم أبي اليسر لم يكن توبة صحيحة وإلا لكان التكفير به لأنه السابق، وبعض التزم القول بكونه توبة صحيحة إلا أنه توبة لم تقبل ولم تكفر الذنب، وأنت تعلم أن في عدم تكفير التوبة الذنب مقالًا، والمنقول عن السبكي أنه قال: إن قبول التوبة عن الكفر مقطوع به تفضلًا، وفي القطع بقبول توبة العاصي قولان لأهل السنة، والمختار عند إمام الحرمين أن تكفير التوبة للذنب مظنون، وادعى النووي أنه الأصح، وفي شرح البرهان: الصحيح عندنا القطع بالتكفير، وقال الحليمي: لا يجب على الله تعالى قبول التوبة لكنه لما أخبر عن نفسه أنه يقبل التبوة عن عباده ولم يجز أن يخلف وعده علمنا أنه سبحانه وتعالى لا يرد التوبة الصحيحة فضلًا منه تعالى، ومثل هذا الخلاف الخلاف في التكفير باجتناب الكبائر ونحوه هل هو قطعى أو ظنى، وفي كلام العلامة نجم الدين النسفي وصدر الشريعة وغيرهما أن العقاب على الصغائر جائز الوقوع سواء اجتنب مركتبها الكبائر أم لا لدخولها تحت قوله تعالى: {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} [المائدة: 18] ولقوله تعالى: {لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] والإحصاء إنما يكون للسؤال والمجازاة آلء غير ذلك من الآيات والأحاديث، وخالفت المعتزلة في ذلك فلم يجيزوا وقوع التعذيب إذا اجتنبت الكبائر واستدوا بآية: {إِن تَجْتَنِبُوا} [النساء: 31] إلخ، ويجاب بأن المراد بالكبائر الكفر والجمع لتعدد أنواعه أو تعدد من اتصف به، ومعنى الآية إن تجتنبوا الكفر نجعلكم صالحين لتفكير سيآتكم، ولا يخفى ما في استدلالهم من الوهن، وجوابهم عن استدلال المعتزلة لعمري أوهن منه.وذهب صاحب الذخائر إلى أن من الحسنات ما يكفر الصغائر والكبائر إذ قد صح في عدة أخبار من فعل كذا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وفي بعضها خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ومتى حملت الحسنات في الآية على الاستغراق فالمناسب حمل السيئات عليه أيضًا، والتخصص خلاف الظاهر وفضل الله تعالى واسع، وإلى هذا مال ابن املنذر، وحكام ابن عبد البر عن بعض المعاصرين له وعني به فيما قيل: أبا محمد المحدث لكن ردّ عليه، فقال بعضهم: يقول: إن الكبائر والصغائر تكفرها الطهارة والصلاة لظاهر الأحاديث وهو جهل بين وموافقة للمرجئة في قولهم، ولو كان كما زعم لم يكن للأمر بالتوبة معنى، وقد أجمع المسلمون على أنها فرض، وقد صح أيضًا من حديث أبي هريرة: {الصلوات كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر} انتهى.وفيه أن دعوى أن ذلك جهل لا يخلو عن الافراط إذا الفرق بين القول بعموم التكفير ومذهب المرجئة والكبائر وهي من جملة أعمال العبد فكما جاز أن يجعل الله سبحانه هذا العمل سببًا لتكفير الجميع يجوز أن يجعل غيره من الأعمال كذلك، وقوله: ولو كان كما زعم إلخ مردود لأنه لا يلزم من تكفير الذنوب الحاصلة عدم الأمر بالتوبة وكونها فرضًا إذا تركها من الذنوب المتجددة التي لا يشملها التكفير السابق بفعل الوضوء مثلا ألا ترى أن التوبة من الصغائر واجبة على ما نقل عن الأشعري، وحكى إمام الحرمين وتلميذه الأنصاري الإجماع عليه ومع ذلك فجميع الصغائر مكفرة بنص الشارع وإن لم يتب على ما سمعت من الخلاف، وتحقيق ذلك أن التوبة واجبة في نفسها على الفور ومن أخرها تكرر عصيانه بتكرر الأزمنة كما صرح به الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ولا يلزم من تكفير الله تعالى ذنوب عبده سقوط التكليف بالتوبة التي كلف بها تكليفًا مستمرًا، وقريب من هذا ارتفاع الاثم عن النائم إذا أخرج الصلاة عن وقتها مع الأمر بقضائها، وما روي من حديث أبي هريرة إنما ورد في أمر خاص فلا يتعداه إذ الأصل بقاء ما عداه على عمومه وهذا مما لا مجال للقياس فيه حتى يخص بالقياس على ذلك فلا يليق نسبة ذلك القائل إلى الجهل، والرجاء بالله تعالى شأنه قوي كذا قيل، وفي المقام بعد أبحاث تركنا ذكرها خوف الاملال فإن أردتها فعليك بالنظر في الكتب المفصلة في علم الحديث.{ذلك ذكرى لِلذكِرِينَ} أي عظمة للمتعظين، وخصهم بالذكر لأنه المنتفعون بها، والإشارة إلى ما تقدم من الوصية بالاستقامة والنهي عن الطغيان والركون إلى الذين ظلموا وإقامة الصلوات في تلك الأوقات بتأويل المذكور، وإلى هذا ذهب الزمخشري، واستظهر أبو حيان كون ذلك إشارة إلى إقامة الصلاة وأمر التذكير سهل، وقيل: هي إشارة إلى الإخبار بأن الحسنات يذهبن السيآت، وقال الطبري: إشارة إلى الأوامر والنواهي في هذه السورة، وقيل: إلى القرآن، وبعض من جعل الاشارة إلى الإقامة فسر الذكري بالتوبة.{وَاصْبِرْ} أي على مشاق امتثال ما كلفت به، في الكشاف إن هذا كرور منه تعالى إلى التذكير بالصبر بعد ما جاء بما هو خاتمة للتذكير لفضل خصوصية ومزية وتنبيه على مكان الصبر ومحله كأنه قال: وعليك بما هو أهم مما ذكرت به وأحق بالتوصية وهو الصبر على امتثال ما أمرت به والانتهاء عما نهيت عنه فلا يتم شيء منه إلا به انتهى.ووجه كونه كريرًا إلى ما ذكر بأن الأمر بالاستقامة أمر بالثبات قولًا وفعلًا وعقدًا وهو الصبر على طاعة الله تعالى ويتضمن الصبر عن معصيته ضرورة على أن ما ذكره سبحانه كله لا يتم إلا بالصبر ففي ضمن الأمر به أمر بالصبر، واعترض اعتبار الانتهاء عما نهى عنه من متعلقات الصبر إذ لا مشقة في ذلك، واعتذر عن ذلك بأنه يمكن أن يراد بما نهى عنه من الطغيان والركون ما لا يمكن عادة خلو البشر عنه من أدنى ميل بحكم الطبيعة من الاستقامة المأمور بها ومن يسير ميل بحكم البشرية إلى من وجد منه ظلم فإن في الاحتراز عن أمثاله من المشقة ما لا يخفى، وتعقب بأن ما هو من توابع الطبيعة لا يكون من متعلقات النهي، ولهذا ذكروا أن حب المسلم لولده الكافر مثلًا لا إثم فيه، فالأولى أن يقال: إن وجود المشقة في امتثال مجموع ما كلف به يكفي في الغرض، وقيل: المراد من الصبر المأمور به المداومة على الصلاة كأنه قيل: أقم الصلاة أي أدّها تامة ودوام عليها نظير قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا} [طه: 132]: {فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} أي يوفيهم ثواب أعمالهم من غير بخس أصلًا، وعبر ذلك بنفي الإضاعة بيانًا لكمال نزاهته تعالى عن حرمانهم شيئًا من ثوابهم، وعدل عن الضمير ليكون كالبرهان على المقصود مع إفادة فائدة عامة لكل من يتصف بذلك وهو تعليل للأمر بالصبر، وفيه إيماء إلى أن الصبر على ما ذكر من باب الإحسان، وعن مقاتل أنه فسر الإحسان هنا بالإخلاص.وعن ابن عباس أنه قال: المحسنون المصلون وكأنه نظر إلى سياق الكلام، هذا ومن البلاغة القرآنية أن الأوامر بأفعال الخير أفردت للنبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت عامة في المعنى، والمناهي جمعت للأمة، وما أعظم شأن الرسول عليه الصلاة والسلام عند ربه جل وعلا. اهـ.
|